فصل: تفسير الآيات (231- 233):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (231- 233):

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
بلغ: يبلغ بلوغاً، وصل إلى الشيء، قال الشاعر:
ومجر كغلاّن الأنيعم بالغ ** دياراً لعدو ذي زهاء وأركان

والبلغة منه، والبلاغ الأصل، يقع على المدة كلها وعلى آخرها.
يقال لعمر الانسان: أجل: وللموت الذي ينتهي: أجل، وكذلك الغاية والأمد.
العضل: المنع، عضل أيّمه منعها من الزوج يعضلها بكسر الضاد وضمها، قال ابن هرمة:
وإن قضاء يدي لك فاصطنعني ** كرائم قد عضلن عن النكاح

ويقال: دجاج معضل إذا احتبس بيضها، قاله الخليل، وقال:
ونحن عضلنا بالرماح نساءنا ** وما فيكم عن حرمة الله عاضل

ويقال: أصله الضيق، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم؛ قال أوس:
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة ** معضلة منا بجيش عرمرم

وأعضل الداء الأطباء أعياهم، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق، قالت ليلى الأخيلية:
شفاها من الداء العضال الذي بها ** غلام إذا هزَّ القناة سقاها

وأعضل الأمر اشتدّ وضاق، وكل مشكل عند العرب معضل، وقال الشافعي رحمة الله عليه:
إذا المعضلات تصدينني ** كشفت حقائقها بالنظر

الرضع: مص الثدي لشرب اللبن، يقال منه: رضع يرضع رضعاً ورضاعاً ورضاعةً، وأرضعته أمّه ويقال، للئيم: راضع وذلك لشدّة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب، فيطلب منه اللبن، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به.
الحول: السنة وأحول الشيء صار له حول؛ قال الشاعر:
من القاصرات الطرف لو دب محول ** من الذرّ بفوق الأتب منها لأثَّرا

ويجمع على أحوال، والحول الحيلة، وحال الشيء انقلب وتحوّل انتقل، ورجل حوّل كثير التقليب والتصرّف، وقد تقدّم أن حول يكون ظرف مكان، تقول: زيد حولك وحواليك وحوالك وأحوالك، أي: فيما قرب منك من المكان. الكسوة: اللباس يقال منه كسا يكسو، وفعله يتعدى إلى اثنين تقول: كسوت زيداً ثوباً، وقد جاء متعدياً إلى واحد، قال الشاعر:
واركب في الروع خيفانة ** كسا وجهها سعف منتشر

ضمنه معنى غطاء، فتعدى إلى واحد، ويقال: كسى الرجل فهو كاسٍ، قال الشاعر:
وأن يعرين إن كسي الجواري ** وقال:

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

التكليف: الإلزام وأصله من الكلف، وهو الأثر على الوجه من السواد، فلان كلف بكذا أي معرى به، وقال الشاعر:
يهدى بها كلف الخدين مختبر ** من الجمال كثير اللحم عيثوم

الوارث: معروف يقال منه: ورث يرث بكسر الراء، وقياسها في المضارع الفتح، ويقال: أرث وورث، ويقال: الإرث كما يقال ألده في ولده، والأصل الواو.
الفصال: مصدر فصل فصلاً وفصالاً، وجمع فصيل، وهو المفطوم عن ثدي أمه، وفصل بين الخصمين فرق فانفصلا، وفصلت العير خرجت، والمعنى فارقت مكانها، وفصيلة الرجل أقرب الناس إليه، والفصيلة قطعة من لحم الفخذ، والتفصيل بمعنى بالتبيين،
{آيات مفصلات} وتفصيل كل شيء تبيينه، وهو راجع لمعنى تفريق حكم من حكم، فيحصل به التبيين، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد.
التشاور: في اللغة هو استخراج الرأي، من قولهم: شرت العسل أشوره إذا اجتنيته، والشورة والمشورة، وبضم العين وتنقل الحركة، كالمعونة قال حاتم:
وليس على ناري حجاب أكفها ** لمقتبس ليلا ولكن أشيرها

وقال أبو زيد: شرت الدابة وشورتها أجريتها لاستخراج جريها، وكان مدار الكلمة على الإظهار، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر، ومنه الشوار، وهو متاع البيت لظهوره للمناظر، وشارة الرجل هيئته لأنها تظهر من زيه، وتبتدئ من زينته، وأورد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال: والإشارة هي إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وغيره. إنتهى. فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من حيث المعنى فصحيح، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح، وقد جرت هذه المسألة بين الأمير ابن الأغلب متولي أفريقية وبعض العلماء من أهل بلده، كيف يقال إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه؟ وبنوا من الإشارة تفاعلنا، فقال ابن الاغلب: تشاورنا، وقال ذلك العالم تشايرنا، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي، وكان قد أقدمه ابن الاغلب من العراق إلى افريقية لتعليم أولاده، فقال له: كيف تبني من الإشارة: تفاعلنا؟ فقال: تشايرنا. وأنشد للعرب بيتاً شاهداً على ذلك عجزه.
فيا حبذا يا عز ذاك التشاير

فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء، والمادة الأخرى من ذوات الواو.
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ} نزلت في ثابت بن بشار، ويقال أسنان الأنصاري، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدّتها يومان أو ثلاثة، وكادت أن تبين راجعها، ثم طلقها ثم راجعها، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارّة لها، ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً.
والخطاب في: طلقتم ظاهره أنه للأزواج، وقيل: لثابت بن يسار، خوطب الواحد بلفظ الجمع للاشتراك في الحكم وأبعد من قال: إن الخطاب للأولياء لقوله: {فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف} ونسبة الطلاق والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جداً.
فبلغن أي: قاربن انقضاء العدة والأجل، هو الذي ضربه الله للمعتدّات من الأقراء، والأشهر، ووضع الحمل. وأضاف الأجل إليهن لأنه أمس بهنّ، ولهذا قيل: الطلاق للرجال والعدة للنساء، ولا يحمل: بلغن أجلهنّ على الحقيقة، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له، لأنها ليست بزوجة، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها.
{فأمسكوهنّ بمعروف} أي راجعوهنّ قبل انقضاء العدّة، وفسر المعروف بالإشهاد على الرجعة، وقيل: بما يجب لها من حق عليه، قاله بعض العلماء، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن المسيب، ومالك، والشافعي، وأحمد، واسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، قالوا: الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها، فإن لم يجد طلقها، فإذا لم يفعل خرج عن حدّ المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها، حتى قال ابن المسيب: إن ذلك سنة.
وفي (صحيح) البخاري: تقول المرأة إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني! وقال عطاء، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم.
والقائلون بالفرقة اختلفوا، فقال مالك: هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد، ولا كانت بعوض، ولا لضرر بالزوج، فكانت رجعية كضرر المولي. وقال الشافعي: هي طلقة بائنة، وقيل: بالمعروف من غير طلب ضرار بالمراجعة.
{أو سرّحوهنّ بمعروف} أي: خلوهنّ حتى تنقضي عدتها، وتبين من غير ضرار، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه، إذ بانقضاء العدّة حصلت البينونة.
{ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا} هذا كالتوكيد لقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} نهاهم أن لا يكون الإمساك ضراراً، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله: {فأمسكوهن بمعروف} يحصل بإمساكها مرة بمعروف، هذا مدلول الأمر، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات وعمها، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة، ثم الطلاق، ثم الرجعة، ثم الطلاق على سبيل الضرار، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة بخصوصها، تعظيماً لهذا المرتكب السيء الذي هو أعظم إيذاء النساء، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر.
ومعنى: ضراراً، مضارة وهو مصدر ضار ضراراً ومضارّة، وفسر بتطويل العدّة، وسوء العشرة، وبتضييق النفقة، وهو أعم من هذا كله، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه.
وانتصب: ضراراً، على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: مضارين لتعتدوا، أي: لتظلموهن، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء.
واللام: لام كي، فإن كان ضراراً حالاً تعلقت اللام به، أو: بلا تمسكوهن، وإن كان مفعولاً من أجله تعلقت اللام به، وكان علة للعلة، تقول: ضربت ابني تأديباً لينتفع، ولا يجوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلاَّ بالعطف، أو على البدل، ولا يمكن هنا البدل لاجل اختلاف الإعراب، ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما مختلفان.
قوله تعالى {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} ذلك إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار والعدوان، وظلم النفس بتعويضها العذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح.
{ولا تتخذوا آيات الله هزوا} قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: طلقت وأنا لاعب، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
«من طلق أو حرّر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جدّ» وقال الزمخشري: أي جدّوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها وإلاَّ فقد اتخذتموها هزواً ولعباً، ويقال لمن لم يجدّ في الأمر إنما أنت لاعب وهازئ. انتهى كلامه.
وقاله معناه جماعة من المفسرين، وقال ابن عطية، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وخصها الكلبي بقوله: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} {ولا تمسكوهنّ}.
وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً أو هازلاً، أو راجع كذلك، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح، وأمر الحيض والإيلاء، والطلاق والعدة، والرجعة والخلع، وترك المعاهدة، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج، وله عليها، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق على الزوج، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الاحكام، وحدّ حدوداً لا تتعدى، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدٍّ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله، التي منها هذه الآيات النازله في شأن النساء، هزؤاً، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد، لأنها من أحكام الله، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه، وبين العبد والناس.
وانتصب: هزؤاً، على أنه مفعول ثانٍ: لتتخذوا، وتقول: هزأ به هزؤاً استخف.
وقرأ حمزة: هزأ، بإسكان الزاي، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوهاً تذكر في علم القراآت، وهو من تخفيف فعل: كعنق، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل.
وقرأ هزواً بضم الزاي وابدال من الهمزة واواً، وذلك لأجل الضم.
وقرأ الجمهور: هزؤاً بضمتين والهمز، قيل: وهو الأصل، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: {أتتخذنا هزؤاً}
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} هذا أمر معطوف على أمر في المعنى، وهو: ولا تتخذوا آيات الله هزواً، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة، ولكنها بني عليها المصدر، ويريد: النعم الظاهرة والباطنة، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد علية الصلاة والسلام.
و: ما أنزل عليكم، معطوف على نعمة، وهو تخصيص بعد تعميم، إذ ما أنزل هو من النعمة، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد، كقوله: {وجبريل وميكال} بعد ذكر الملائكة، وتقدم القول فيه، وأتى: بعليكم، تنبيهاً للمأمورين وتشريفاً لهم، إذ في الحقيقة ما أنزل إلاَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه، ومكلفين باتباعه، صار كأنه نزل علينا.
و: الكتاب، القرآن، و: الحكمة، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن، والمبينة ما فيه من الإجمال. ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى}
وقيل: وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه، فلا اجتهاد، وذكر: النعم، لا يراد به سردها على اللسان، وإنما المراد بالذكر الشكر عليها، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها، فعبر بالسبب عن المسبب، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون: عليكم، في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة عليكم، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون: عليكم، متعلقاً بلفظ النعمة، ويكون إذ ذاك مصدراً من: أنعم، على غير قياس، كنبات من أنبت.
وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، و: من، في موضع الحال، أي: كائناً من الكتاب، ويكون حالاً من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول المحذوف، إذ تقديره: وما أنزل عليكم. ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا، كأنه قيل: وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة.
{يعظكم به} يذكركم به، والضمير عائد على: ما، من قوله: وما أنزل، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في: أنزل، والعامل فيها: أنزل، وجوزوا في: ما، من قوله: وما أنزل، أن يكون مبتدأ. و: يعظكم، جملة في موضع الخبر، كأنه قيل: والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به، وعطفه على النعمة أظهر.
{واتقوا الله} لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي، وذلك بسبب النساء اللاتي هنّ مظنة الإهمال وعدم الرعاية، أمر الله تعالى بالتقوى، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله: {واعلموا أن الله بكل شيء عليم} والمعنى: بطلب العلم الديمومة عليه، إذ هم عالمون بذلك، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء، فلا تلبسوا على أنفسكم. وكرر اسم الله في قوله تعالى: {واتقوا الله} {واعلموا أن الله} لكونه من جملتين، فتكريره أفخم، وترديده في النفوس أعظم.
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهن} قال ابن عباس، والزهري، والضحاك؛ نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح بغيره إذا طلقها، وقيل: نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله، طلقها زوجها، وانقضت عدتها فاراد رجعتها، فأتى جابر وقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها؟ وكانت المرأة تريد زوجها، فنزلت.
وقيل: في معقل بن يسار، وأخته جمل، وزوجها أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته، ذكر معناه البخاري.
فعلى السبب الأوّل يكون المخاطبون هم الأزواج، وعلى هذا السبب الأولياء، وفيه بُعد، لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد، وهو أن يكون الأولياء قد تسببوا في الطلاق حتى وقع، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في: {وإذا طلقتم} للأزواج وفي {فلا تعضلوهنّ} للأولياء، لتنافي التخاطب، ولتنافر الشرط والجزاء، فالأولى، والذي يناسبه سياق الكلام، أن الخطاب في الشرط والجزاء للأزواج، لأن الخطاب من أوّل الآيات هو مع الأزواج ولم يجر للأولياء ذكر، ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة النساء قبل انقضاء العدة، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهنّ بعد انقضاء العدّة، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل، إذ كانوا يفعلون ذلك ظلماً وقهراً وحمية الجاهلية، لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج، وعلى هذا يكون معنى: {أن ينكحن أزواجهن} أي: من يردن أن يتزوّجنه، فسموا أزواجاً باعتبار ما يؤولون إليه.
وعلى القول بأن الخطاب للأولياء يكون أزواجهن هم المطلقون، سموا أزواجاً باعتبار ما كانوا عليه، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدّة أزواجاً حقيقة.
وجهات العضل من الزوج متعددة: بأن يجحد الطلاق، أو يدعي رجعة في العدة، أو يتوعد من يتزوّجها، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها، فنهوا عن العضل مطلقاً بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره.
وقال الزمخشري: والوجه أن يكون خطاباً للناس، أي: لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين؛ وصدر بما يقارب هذا المعنى كلامه ابن عطية، فقال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ} الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الإزواج، ومنهم الأولياء، لأنهم المراد في تعضلوهنّ. انتهى كلامه. وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في: طلقتم، للأزواج، وفي: فلا تعضلوهنّ، للأولياء وقد بينا ما فيه من التنافر.
{أن ينكحن أزواجهنّ} هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال، أو على أن أصله من أن ينكحن، وينكحن مضارع نكح الثلاثي، وفيه دلالة على أن للمرأة أن تنكح بغير ولي، لأنه لو كان له حق لما نهى عنه، فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق، وظاهره العقد.
وظاهر الآية إذا كان الخطاب في: فلا تعضلوهنّ، للأولياء النهي عن مطلق العضل، فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد، وقال مالك: إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون بذلك عاضلاً.
وقال أبو حنيفة: الثيب تزوّج نفسها وتستوفي المهر ولا اعتراض للوليّ عليها. وهو قول زفر؛ وإن كان غير كفء جاز، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما.
وعلى جواز النكاح بغير وليّ: ابن سيرين، والشعبي، والزهري، وقتادة. وقال أبو يوسف: إن سلم الولي نكاحها جاز وإلاَّ فلا، إلاَّ إن كان كفؤاً فيجيزه القاضي إن أبى الولي أن يسلم، وهو قول محمد. وروي عن أبي يوسف غير هذا.
وقال الأوزاعي: إذا ولت أمرها رجلاً، وكان الزوج كفؤا، فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرّق بينهما. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، والحسن بن صالح: لا يجوز النكاح إلاَّ بولي، وهو مذهب الشافعي. وقال الليث: تزوّج نفسها بغير ولي. وقال ابن القاسم، عن مالك: إذا كانت معتقة، أو مسكينة، أو دنيئة، فلا بأس أن تستخلف رجلاً يزوّجها، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول، وعنه خلاف بعد الدخول، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوّجها إلا الولي أو السلطان، وحجج هذه المذاهب في كتب الفقه.
{إذا تراضوا}: الضمير عائد على الخطاب والنساء، وغلب المذكر، فجاء الضمير بالواو، ومن جعل للأولياء ذكراً في الآية قالوا: احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج.
والعامل في: إذا، ينكحن.
{بينهم بالمعروف} الضمير في: بينهم، ظرف مجازي ناصبه: تراضوا، بالمعروف: ظاهره أنه متعلق بتراضوا، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط، وقيل: مهر المثل، وقيل: المهر والإشهاد. ويجوز أن يتعلق: بالمعروف، بينكحن، لا: بتراضوا، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي، بل هو من الفصل الفصيح، لأنه فصل بمعمول الفعل، وهو قوله: {إذا تراضوا} فإذا منصوب بقوله: {أن ينكحن} و: بالمعروف، متعلق به، فكلاهما معمول للفعل.
{ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر} ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل سامع، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال: منكم، وقيل: ذلك بمعنى: ذلكم، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل، و: ذلك، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب، وهو: هذا، وان كان الحكم قريباً ذكره في الآية، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء، ومعنى: يوعظ به أي يذكر به، ويخوّف. و: منكم، متعلق بكان، أو: بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في: يؤمن، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده، الناهي لهم، والآمر. و: اليوم الآخر، لأنه هو الذي يحصل به التخويف، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي. وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلاَّ المؤمن، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول {إنما يستجيب الذين يسمعون} وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى، {إنما يتذكر أولوا الألباب}
{ذلكم أزكى لكم وأطهر} أي: التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من الريبة إذا منعا من النكاح، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال.
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي: يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كل منهما للآخر، لذلك نهى تعالى عن العضل، قال معناه ابن عباس؛ أو: يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب. أو: يعلم بواطن الأمور ومآلها. وأنتم لا تعلمون ذلك، إنما تعلمون ما ظهر. أو: يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها. ويكون المقصود بذلك: تقرير الوعد والوعيد.
قيل: وتضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة، والبلاغة، من علم البيان.
الأول: الطباق، وهو الطلاق والإمساك، فإنهما ضدان، والتسريح طباق ثان لأنه ضد الإمساك، والعلم وعدم العلم، لأن عدم العلم هو الجهل.
الثاني: المقابلة في {فأمسكوهنّ بمعروف} و{ولا تمسكوهنّ ضراراً} قابل المعروف بالضرار، والضرار منكر فهذه مقابلة معنوية.
الثالث: التكرار في: {فبلغهن أجلهنّ} كرر اللفظ لتغيير المعنيين، وهو غاية الفصاحة، إذ اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين.
الرابع: الالتفات في {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} ثم التفت إلى الأولياء فقال: {فلا تعضلوهنّ} وفي الآية، في قوله: ذلك، إذ كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى الجمع في قوله: منكم.
الخامس: التقديم والتأخير، التقدير، أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا.
السادس: مخاطبة الواحد بلفظ الجمع، لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار، أو في أخت جابر، وقيل ابنته.
{والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى، لما ذكر جملة في: النكاح، والطلاق، والعدّة، والرجعة، والعضل، أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح، وهو ما شرع من حكم: الإرضاع ومدّته، وحكم الكسوة، والنفقة، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن شاء الله {والوالدات} جمع والدة بالتاء، وكان القياس أن يقال: والد، لكن قد أطلق على الأب والد، ولذلك قيل فيه وفي الأم الوالدان فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد، فأطلق عليهما: والدان.
وظاهر لفظ: الوالدات، العموم، فيدخل فيه الزوجات والمطلقات.
وقال الضحاك، والسدي، وغيرهما: في المطلقات، جعلها الله حدّاً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له، ورجح هذا القول لأن قوله: والوالدات، عقيب آية الطلاق، فكانت من تتمتها، فشرع ذلك لهنّ، لأن الطلاق يحصل فيه التباغض، فربما حمل على أذى الولد، لأن بإيذائه إيذاء والده، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد.
وقيل: هي في الزوجات فقط، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة. {يرضعن أولادهنّ} صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبراً، أي: في حكم الله تعالى الذي شرعه، فالوالدات أحق برضاع أولادهنّ، سواء كانت في حيالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية.
ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله: {والمطلقات يتربصن} لكنه أمر ندب لا إيجاب، إذ لو كان واجباً لما استحق الأجرة. وقال تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلاَّ إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك، ولا تجبر عليه، فإذا لم يقبل ثديها، أو لم يوجد له ظئراً، وعجز الأب عن الاستئجار وجب عليها إرضاعه، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات.
ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلاَّ الوالد أو الجد، وإن علا. ومذهب مالك: أنه حق على الزوجة لأنه كالشرط، إلاَّ أن تكون شريفة ذات نسب، فعُرفها أن لا ترضع.
وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع {حولين كاملين} وصف الحولين بالكمال دفعاً للمجاز الذي يحتمله حولين، إذ يقال: أقمت عند فلان حولين، وإن لم يستكملهما، وهي صفة توكيد كقوله {عشرة كاملة} وجعل تعالى هذه المدة حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له.
وظاهر قوله: أولادهن، العموم، فالحولان لكل ولد، وهو قول الجمهور.
وروي عن ابن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون، أو: ثمانية، فإثنان وعشرون، أو: تسعة، فأحد وعشرون، وكان هذا القول انبنى على قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً.
وفي قوله: يرضعن، دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن، منها: مدة الرضاع المحرمة، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم، والحضانة ومن أحق بها بعد الأم؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم؟ وهل للذمية حق في الرضاعة؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل، وموضوع هذا علم الفقه.
{لمن أراد أن يتم الرضاعة} هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك إذا لم يكن فيه ضرر للولد، وروي عن قتادة أنه قال: تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات، ثم يسر ذلك وخفف، فنزل: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} قال ابن عطية: وهذا قول متداع.
قال الراغب: وفي قوله: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} تنبيه على أنه لا يجوز تجاوز ذلك، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين، وتقوية لإرضاع بعد الحولين، والرضاعة من المجاعة، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر، كخيار الثلاث، وعدد حجارة الاستنجاء، والمسح على الخفين يوماً وليلة وثلاثة أيام، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين، وهو النقصان، لم تجز مجاوزته.
انتهى كلامه.
وقال غيره: ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين، وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك.
واللام في: لمن، قيل: متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، وتكون اللام على هذا للتعليل أي: لاجله، فتكون: مَنْ واقعة على الأب، كأنه قيل: لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء، وقيل: اللام للتبيين، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم: سقياً لك. وفي قوله تعالى: {هيت لك} فاللام لتبيين المدعو له بالسقي، وللمهيت به، وذلك أنه لما قدم قوله: {يرضعن أولادهن حولين كاملين} بين أن هذا الحكم إنما هو: لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات، فتكون: من، واقعة على الأم، كأنه قيل: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} من الوالدات. أو تكون، مَنْ، واقعة على الوالدات والمولود له، كل ذلك يحتمله اللفظ.
وقرأ الجمهور: أن يتم الرضاعة بالياء من: أتم، ونصب الرضاعة. وقرأ مجاهد، والحسن، وحميد، وابن محيصن، وأبو رجاء: تتم، بالتاء من تم، ورفع الرضاعة. وقرأ أبو حنيفة، وابن أبي عبلة، والجارود بن أبي سبرة كذلك، إلاَّ أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة: كالحضارة والحضارة، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء، والكوفيون يعكسون ذلك، وروي عن مجاهد أنه قرأ: الرضعة، على وزن القصعة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ: أن يكمل الرضاعة، بضم الياء، وقرئ: أن يتم، برفع الميم، ونسبها النحويون إلى مجاهد، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر. أنشد الفراء رحمة الله تعالى:
أن تهبطين بلاد قو ** م يرتعون من الطلاح

وقال الآخر:
أن تقرآن على أسماء ويحكما ** مني السلام وأن لا تُبْلِغَا أحدا

وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع، وترك أعمالها حملاً على: ما، أختها في كون كل منهما مصدرية، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة، وشذ وقوعها موقع الناصبة، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير:
ترضى عن الله أن الناس قد علموا ** أن لا يدانينا من خلقه بشر

والذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع: أن، مخصوص بضرورة الشعر، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلاَّ في هذا الشعر، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد، وما سبيله هذا، لا تُبنى عليه قاعدة.
{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} المولود جنس، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و: أل، كمن، و: ما، يعود الضمير على اللفظ مفرداً مذكراً، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث، وهنا عاد الضمير على اللفظ، فجاء له.
ويجوز في العربية أن يعود على المعنى، فكان يكون: لهم، إلاَّ أنه لم يقرأ به، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور، وحذف الفاعل، وهو: الوالدات، و: المفعول به وهو: الأولاد، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل، وهذا على مذهب البصريين، أعني: أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف نحو: مرّ بزيد.
وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلاَّ فيما حرف الجر فيه زائد، نحو: ما ضرب من أحدٍ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم.
واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع، كما أن: يقوم من؟ زيد يقوم. في موضع رفع، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر، والتقدير: سير هو، يريد: أي سير السير، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل، وهذا سائغ عند بعض البصريين، وممنوع عند محققي البصريين، والنظر في الدلائل هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في عالم النحو.
وقد وهم بعض كبرائنا، فذكر في كتابه المسمى ب (الشرح لجمل الزجاجي) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلاَّ السهيلي، فإنه منع ذلك، وليس كما ذكر، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء، والكسائي، وهشام. والتفصيل في المجرور. وممن تبع السهيلي على قوله: تلميذه أبو علي الزيدي شارح (الجمل).
و: المولود له، هو الوالد، وهو الأب، ولم يأت بلفظ الوالد، ولا بلفظ الأب، بل جاء بلفظ: المولود له، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه، إذ اللام في: له، معناها شبه التمليك كقوله تعالى: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار، وتجد الولد في الغالب مطيعاً لأبيه، ممتثلاً ما أمر به، منفذاً ما أوصى به، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم، كما أنشد المأمون بن الرشيد، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل، قال:
فإنما أمهات الناس أوعية ** مستودعات وللابناء آباء

فلما كان لفظ: المولود، مشعراً بالمنحة وشبه التمليك، أتى به دون لفظ: الوالد، ولفظ: الأب، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الاب، كما قال تعالى: {لا يجزى والد عن ولده} وقال: {لا جناح عليهن في آبائهن}
ولطيفة أخرى في قوله: {وعلى المولود له} وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو وُلِد لك لا لأمه، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق، والكسوة لمرضعته.
وفسر ابن عطية هنا، الرزق، بأنه الطعام الكافي، فجعله إسما للمرزوق. كالطحن والرعي. وقال الزمخشري: فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن، فشرح الرزق: بأن والفعل اللذين ينسَبكُ منهما المصدر، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق، وإرادة المصدر.
وقد ذكرنا أن: رزقاً بكسر الراء، حكي مصدراً، كرزق بفتحها فيما تقدم، وقد جعله مصدراً أبو علي الفارسي في قوله: {ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً} وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة، وسيأتي ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى.
ومعنى: بالمعروف، ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها، بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال، قاله الضحاك وقال ابن عطية: بالمعروف، يجمع جنس القدر في الطعام، وجودة الاقتضاء له، وحسن الاقتضاء من المرأة. انتهى كلامه.
ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة، لأن الآية إنما هي فيما يجب على المولود له من الرزق والكسوة، فبالمعروف، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن على الإعمال، إما للأول وإما للثاني إن كانا مصدرين، وإن عنى بهما المرزوق، والشأن، فلابد من حذف مضاف التقدير: إيصال أو دفع، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى، ويكون: بالمعروف، في موضع الحال منهما، فيتعلق بمحذوف. وقيل: العامل فيه معنى الاستقرار في: على.
وقرأ طلحة: وكسوتهن، بضم الكاف، وهما لغتان يقال: كُسوة وكِسوة، بضم الكاف وكسرها.
{لا تُكلف نفس إلاَّ وسعها} التكليف إلزام ما يؤثر في الكلفة، من: كلف الوجه، وكلف العشق، لتأثيرهما وسعها طاقتها وهو ما يحتمله وقد بين تعالى ذلك في قوله لينفق ذو سعة من سعته الآية وظاهر قوله: {لا تكلف نفس إلاَّ وسعها} العموم في سائر التكاليف، قيل: والمراد من الآية: أن والد الصبي لا يكلف من الإنفاق عليه وعلى أمه، إلاَّ بما تتسع به قدرته، وقيل: المعنى لا تكلف المرأة الصبر على التقصير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعى القصد.
وقراءة الجمهور: {لا تُكلف نفسٌ} مبنى للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، وحذف للعلم به. وقرأ أبو رجاء: لا تكلف، بفتح التاء، أي: لا تتكلف، وارتفع نفس على الفاعلية، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين، و: تكلف تفعل، مطاوع فعل نحو: كسرته فتكسر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل.
وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ: لا نكلف نفساً بالنون، مسنداً الفعل إلى ضمير الله تعالى، و: نفساً، بالنصب مفعول.
{لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبان، عن عاصم: لا تضارّ، بالرفع أي: برفع الراء المشددة، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله: {لا تُكلف نفس إلاَّ وسعها} لاشتراك الجملتين في الرفع، وإن اختلف معناهما، لأن الأولى خبرية لفظاً ومعنى، وهذه خبرية لفظاً نهيية في المعنى. وقرأ باقي السبعة: لا تضار، بفتح الراء، جعلوه نهياً، فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وسكنت الراء الأولى للإدغام، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء، لتجانس الألف والفتحة، ألا تراهم حين رخموا: أسحارّاً، وهم اسم نبات، إذا سمي به حذفوا الراء الأخيرة، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة، لأجل الألف قبلها، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين، فراعوا الألف وفتحوا، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل؟ وقرأ: لا يضارِّ بكسر الراء المشددة على النهي وقرأ أبو جعفر الصفار: لا تضار، بالسكون مع التشديد، أجرى الوصل مجرى الوقف، وروي عنه: لا تضار، بإسكان الراء وتخفيفها، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف. وقال الزمخشري: اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً. انتهى. وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم، ولا نذهب إلى ذلك.
ووجَّه هذه القراءة بعضهم بأن قال: حذف الراء الثانية فراراً من التشديد في الحرف المكرر، وهو الراء، وجاز أن يجمع بين الساكنين: إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ولأنَ مدة الألف تجري مجرى الحركة. انتهى.
وروي عن ابن عباس: لا تضارر، بفك الإدغام وكسر الراء الأول وسكون الثانية. وقرأ ابن مسعود: لا تضارر، بفك الإدغام أيضاً وفتح الراء الأولى وسكون الثانية، قيل: ورواها أبان عن عاصم.
والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز، فأما من قرأ بتشديد الراء، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة، فيحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس، وفي قراءة ابن مسعود؛ ويكون ارتفاع: والدة ومولود، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنياً للفاعل، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنياً للمفعول، فإذا قدرناه مبنياً للفاعل، فالمفعول محذوف تقديره: لا تضارر والدةُ زوجَها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر، ولا يضارر مولودٌ له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه، وغير ذلك من وجوه الضرر.
والباء في: بولدها، وفي: بولده، باء السبب.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون يضار بمعنى: تضر، وأن تكون الباء من صلته لا تضر والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعدما آلفها، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها، أو يقصر في حقها، فتقصر هي في حق الولد.
انتهى كلامه.
ويعني بقوله: أن تكون الباء من صلته، يعنى متعلقة بتضار، ويكون ضار بمعنى أضر، فاعل بمعنى أفعل، نحو: باعدته وأبعدته، وضاعفته وأضعفته، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل، تقول: أضرّ بفلان الجوع، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى، فلا يكون المفعول محذوفاً، بخلاف التوجيه الأول، وهو أن تكون الباء للسبب، فيكون المفعول محذوفاً كما قدرناه.
قيل: ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي، أي: لا يضار كل واحد منهما الصبي، فلا يترك رضاعه حتى يموت، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي، وتكون الباء زائدة معناه: لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى. فيكون: ضار، بمعنى: ضر، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو: ضر، نحو قولهم: جاوزت الشيء وجزته، وواعدته ووعدته، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل.
والظاهر أن الباء للسبب، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارَرْ، براءين، الأولى مفتوحة، وهي قراءة عمر بن الخطاب.
وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول، فإذا كان الفعل مبنياً للمفعول تعين كون الباء للسبب، وامتنع توجيه الزمخشري أن: ضارٌ به في معنى: أضرَّ به، والتوجيه الآخر أن: ضارٌ به بمعنى: ضره، وتكون الباء زائدة، ولا تنقاس زيادتها في المفعول، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى، وإن كان كل واحد منهما مرفوعاً والآخر منصوباً.
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة اللفظ ما لا يخفى على من تعاطى علم البيان.
فالجملة الأولى: أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلاً لأن الإرضاع مما يتجدد دائماً، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيهاً على شفقتهن على الأولاد، وهزالهن وحثاً على الإرضاع، وقيد الإرضاع بمدة، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام. وجاء الوالدات بلفظ العموم، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام، أو أضيف إلى عام، عم. وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى (بالتكميل في شرح التسهيل).
والجملة الثانية: أبرزت أيضاً في صورة المبتدأ والخبر، وجعل الخبر جاراً ومجروراً بلفظ: على، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب. فأكد بذلك مضمون الجملة، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق، فأكد ذلك. وقدم الخبر على سبيل الإعتناء به، وجاء الرزق مقدماً على الكسوة، لأنه الأهم في بقاء الحياة، والمتكرر في كل يوم.
والجملة الثالثة: أبرزت في صورة الفعل ومرفوعه، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي، فيعم، ويتناول أولاً ما سيق لأجله: وهو حكم الوالدات في الإرضاع، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات.
والجملة الرابعة: كالثالثة، لأنها في سياق النفي، فتعم أيضاً، وهي كالشرح للجملة قبلها، لأن النفس إذا لم تكلف إلاَّ طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت، أتى بالجملتين فعليتين، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو: لا، الموضوع للاستقبال غالباً، وفي قراءة من جزم: لا تضار، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال، ونبه على محل الشفقة بقوله: بولدها، فأضاف الولد إليها، وبقوله: بولده، فأضاف الولد إليه، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق. وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين، إذ بدئ فيهما بحكم الوالدات، وثنى بحكم الوالد في قوله: لا تضار، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيد وهند وقامت هند وزيد، ويقوم زيد وهند، وتقوم هند وزيد، إلاَّ إن كان المؤنث مجازياً بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة، كقوله تعالى: {وجُمع الشمس والقمر}
{وعلى الوارث مثل ذلك} هذا معطوف على قوله: {وعلى المولود له} والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله: بالمعروف، اعتراض بهما بين المتعاطفين.
وقرأ يحيى بن يعمر: وعلى الورثة مثل ذلك، بالجمع.
والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه عليه، ولأن المولود له وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه، والمعنى: أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما وجب عليه من رزق الوالدات، وكسوتهن بالمعروف، وتجنب الضرار. وروي هذا عن عمر، والحسن، وقتادة، والسدي: وخصه بعضهم بمن يرث من الرجال يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي. لو كان حياً، وقاله مجاهد، وعطاء. وقال سفيان: الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث، كما قال: «واجعله الوارث منا».
وقال قبيصة بن ذؤيب، والضحاك، وبشير بن نصر، قاضي عمر بن عبد العزيز الوارث هو الصبي نفسه، أي: عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه، وقال بعضهم: الوارث الولد تجب عليه نفقة الوالدين الفقيرين، ذكره السجاوندي عن قبيصة بن ذؤيب.
فعلى هذه الأقوال تكون: الألف واللام في قوله: {وعلى الوارث} كأنها نابت عن الضمير العائد على: المولود له، كأنه قيل: وعلى وارث المولود له.
وقال عطاء أيضاً، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح في آخرين: الوارث وارث المولود.
واختلفوا، فقيل: وارث المولود من الرجال والنساء، قاله زيد بن ثابت، وقتادة، وغيرهما، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه.
وقيل: وارثه من عصبته كائناً من كان، مثل: الجد، والأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم. وهذا يروى عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وإسحاق، وأحمد، وابن أبي ليلى.
وقيل: من كان ذا رحم محرم، فإن كان ليس بذي رحم محرم لم يلزمه شيء، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي قال: الأجداد ثم الأمهات مثل ذلك أي: الأجرة والنفقة وترك المضارة.
وعلى هذه الأقوال تكون الألف واللام كأنها نابت عن ضمير يعود على المولود، وكأنه قيل: وعلى وارثه أي وارث المولود.
وقيل: الوارث هنا من يرث الولاية على الرضيع، ينفق من مال الرضيع عليه، مثل ما كان ينفق أبوه.
فتلخص في الوارث ستة أقوال، وفي بعضها تفصيل كما ذكرناه، فيجيء بالتفصيل عشرة أقوال، والإشارة بقوله: ذلك، من قوله: مثل ذلك، إلى ما وجب على الأب من رزقهن وكسوتهن بالمعروف، على ما شرح في الأقوال في قوله {وعلى الوارث} وقاله أيضاً ابن عباس، وابراهيم، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والشعبي، والحسن.
وعبر بعضهم عن هذا القول بأن: مثل ذلك، هو: أجرة المثل والنفقة، قال: ويروى ذلك عن عمر، وزيد، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وابراهيم، وقتادة، وقبيصة والسدي.
واختاره ابن قتيبة.
وقال الشعبي أيضاً، والزهري، والضحاك، ومالك وأصحابه، وغيرهم: المراد بقوله: مثل ذلك، أن لا يضار، وأما الرزق والكسوة فلا شيء منهما. وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة أن لا يضار الوارث. إنتهى.
وأنّى يكون بالإجماع وقد رأيت أقوال العلماء في وجوب ذلك؟
وقيل: مثل ذلك، أجرة المثل والنفقة وترك المضارة، روي ذلك عن ابن جبير، ومجاهد، ومقاتل، وأبي سليمان الدمشقي، واختاره القاضي أبو يعلى، قالوا: ويشهد لهذا القول أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على: المولود له، النفقة والكسوة، وأن لا يضار، فيكون مثل ذلك، مشيراً إلى جميع ما على المولود له.
{فان أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} الضمير في: أرادا، عائد على الوالدة والمولود له، والفصال: الفطام قبل تمام الحولين. إذا ظهر استغناؤه عن اللبن، فلابد من تراضيهما، فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر، قاله مجاهد، وقتادة والزهري، والسدي وابن زيد، وسفيان وغيرهم.
وقيل: الفطام سواء كان في الحولين أو بعد الحولين قاله ابن عباس.
وتحرير هذا القول أنه قبل الحولين لا يكون إلاَّ بتراضيهما، وأن لا يتضرر المولود، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فله ذلك إلا أن يلحق المولود بذلك ضرر، وعلى هذين القولين يكون ذلك توسعة بعد التحديد.
وقال ابن بحر: الفصال أن يفصل كل واحد منهما القول مع صاحبه بتسليم الولد إلى أحدهما، وذلك بعد التراضي والتشاور لئلا يقدم أحد الوالدين على ما يضر بالولد، فنبه تعالى على أن ما كان متهم العاقبة لا يقدم عليه إلاَّ بعد اجتماع الآراء.
وقرئ: فإن أراد، ويتعلق عن تراض، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله: فصالاً، أي: فصالاً كائنا، وقدّره الزمخشري صادراً. و: عن، للمجاوزة مجازاً، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم، وتراضٍ وزنه تفاعل، وعرض فيه ما عرض في أظبٍ جمع: ظبي، إذ أصله أظبي على: أفعل، فتنقلب الياء واواً الضمة ما قبلها، ثم إنه لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة لغير الجمع، وأنه متى أدّى إلى ذلك التصريف قلبت الواو ياءً، وحوّلت الضمة كسرةً، وكذلك فعل في تراضٍ. وتفاعل هنا في تراض، وتشاور على الأكثر من معانيه من كونه واقعاً من اثنين، وأخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها، و: منهما، في موضع الصفة لتراضٍ، فيتعلق بمحذوف، وهو مراد بعد قوله: وتشاور، أي: منهما، ويحتمل في تشاور أن يكون أحدهما شاور الآخر، أو يكون أحدهما شاور غير الآخر لتجتمع الآراء على المصلحة في ذلك. {فلا جناح عليهما} هذا جواب الشرط، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى، التقدير: ففصلاه، أو ففعلا ذلك، والمعنى: فلا جناح عليهما في الفصال.
{وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} الخطاب للآباء والأمهات وفيه التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب، وتلوين في الضمير، لأن قبله {فإن أرادا فصالاً} بضمير التثنية، وكأنه رجوع إلى قوله: والوالدات، وعلى المولود له.
و: استرضع، فيه خلاف، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر، قولان.
فالأول: قول الزمخشري، قال: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. انتهى كلامه. وهو نقلٌ من نقلٍ، الأصل رضع الولد، ثم تقول: أرضعت المرأة الولد، ثم تقول استرضعت المرأة الولد، واستفعل هنا للطلب أي: طلبت من المرأة إرضاع الولد، كما تقول استسقيت زيداً الماء، واستطعمت عمراً الخبز، أي: طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض، كذلك: أولادكم، منصوب لا على إسقاط الخافض.
والثاني: قول الجمهور، وهو أن يتعدى إلى اثنين، الثاني بحرف جر، وحذف من قوله: أولادكم، والتقدير: لأولادكم، وقد جاء استفعل أيضاً للطلب معدى بحرف الجر في الثاني، وإن كان في: أفعل، معدى إلى اثنين. تقول: أفهمني زيد المسألة، واستفهمت زيداً عن المسألة، فلم يجئ: استطعمت، ويصير نظير: استغفرت الله من الذنب، ويجوز حذف: من، فتقول: الذنب، وليس في قولهم: كان فلان مسترضعاً في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه، أو بحرف جر.
{فلا جناح عليكم} هذا جواب الشرط، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى، التقدير: فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع {إذا سلمتم ما آتيتم}، هذا خطاب للرجال خاصة، وهو من تلوين الخطاب. وقيل: هو خطاب للرجال والنساء، ويتضح ذلك في تفسير قوله: {ما آتيتم}.
{وإذا سلمتم} شرط، قالوا: وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه، وذلك المعنى هو العامل في: إذا، وهو متعلق بما تعلق به: عليكم. إنتهى.
وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولاً المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه، ثم قال ثانياً إن إذا تتعلق بما تعلق به: عليكم، وهذا يناقض ما قبله، ولعلّ قوله: وهو متعلق، سقطت منه ألف، وكان: أو هو متعلق، فيصح إذ ذاك المعنى، ولا تكون إذ ذاك شرطاً، بل تتمحض للظرفية.
وقرأ ابن كثير: ما أتيتم، بالقصر، وقرأ باقي السبعة بالمد؛ وتوجيه قراءة ابن كثير: أن: أتيتم، بمعنى جئتموه وفعلتموه، يقال: أتى جميلاً أي: فعله، وأتى إليه، إحساناً فعله، وقال إن وعده كان مأتياً، أي: مفعولا، وقال زهير:
فما يك من خير أتوه فإنما ** توارثه آباء آبائهم قبل

وتوجيه المدِّ أن المعنى: ما أعطيتم، و: ما، في الوجهين موصولة بمعنى الذي، والعائد عليها محذوف، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان، لأنها تتعدى لاثنين أحدهما ضمير: ما، والآخر، الذي هو فاعل من حيث المعنى، والمعنى في: ما آتيتم، أي: ما أردتم إتيانه أو إيتاءه. ومعنى الآية، والله أعلم جواز الاسترضاع للولد غير أمه إذا أرادوا ذلك واتفقوا عليه، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف، فيكون ما سلمتم هو الأجرة على الاسترضاع، قاله السدي، وسفيان. وليس التسليم شرطاً في جواز الاسترضاع والصحة، بل ذلك على سبيل الندب، لأن في ايتائها الأجرة معجلاً هنياً توطين لنفسها واستعطاف منها على الولد، فتثابر على إصلاح شأنه.
وقيل: سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان، قاله قتادة، والزهري، وفيه بعد لإطلاق: ما، الموضوعة لما لا يعقل على العاقل، وقيل: سلمتم إلى الامهات أجرهنّ بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع قاله مجاهد.
وقيل: سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي: سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان عن اتفاق منهما، وقصد خير وإرادة معروف، قاله قتادة.
وأجاز أبو علي: في: ما آتيتم، أن تكون: ما، مصدرية أي: إذا سلمتم الإتيان، والمعنى مع القصر، وكون: ما، بمعنى الذي، أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير، وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم مبيناً للمفعول أي: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوها، قال تعالى: {وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} ويتعلق: بالمعروف، ب: سلمتم، أي: بالقول الجميل الذي تطيب النفس به، ويعين على تحسين نشأة الصبي. وقيل: تتعلق: بآتيتم.
قالوا: وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك، وهذه كانت سنة جاهلية، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن، والاستصلاح لأبدانهن، ولاستعجال الولد بحصول الحمل، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه، وجعل الأجرة على الأب بقوله: {إذا سلمتم}.
{واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعلمون بصير} لما تقدّم أمر ونهي، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقاً بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم، حذر وهدّد بقوله: {واعلموا} وأتى بالصفة التي هي: بصير، مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه، كما قال تعالى: {ولتصنع على عيني} في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، إذ كان طفلاً.
قالوا: وفي الآية ضروب من البيان والبديع، منها: تلوين الخطاب، ومعدوله في: {والوالدات يرضعن} فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر، والتأكيد: بكاملين، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ، لأنهنّ سبب توصل ذلك. والإيجاز في: {وعلى الوارث مثل ذلك} وتلوين الخطاب: في {وإن أردتم أن تسترضعوا} فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال: {إذا سلمتم} وهو خطاب للآباء خاصة، والحذف في: {أن تسترضعوا} التقدير: مراضع للأولاد، وفي قوله: {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} إنتهى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا انقضاء العدّة بإمساكهنّ، وهو مراجعتهنّ بمعروف، أو بتخلية سبيلهنّ بانقضاء العدَّة، ثم أكد الأمر بالإمساك بمعروف، بأن نص على النهي عن إمساكهن ضراراً بهنّ، وجاء النهي على حسب ما كان يقع منهم في الجاهلية من الرجعة، ثم الطلاق، ثم الرجعة، ثم الطلاق على سبيل المضارة للنساء، فنهوا عن هذه الفعلة القبيحة تعظيماً لهذا الفعل السيء الذي هو أعظم إيذاءِ النساء، ثم ذكر تعالى أن من ارتكب ما نهى الله عنه من ذلك فقد ظلم نفسه، أي: إن إمساك النساء على سبيل المضارة، وتطويل عدّتهنّ، إنما وبال ذلك في الحقيقة على نفسه، حيث ارتكب ما نهى الله عنه، ثم نهى تعالى عن اتخاذ آيات الله هزؤاً، لأنه تعالى قد أنزل آيات في النكاح، والحيض، والإيلاء، والطلاق، والعدّة، والرجعة، والخلع، وترك المضارة، وتضمنت أحكاماً بين الرجال والنساء، وإيجاب حقوق لهم وعليهم، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء حتى كانوا لا يورثون البنات احتقاراً لهنّ، وذكر قبل هذا أن من تعدّى حدود الله فهو ظالم، أكدّ ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله هزؤاً، بل تؤخذ بجدّ وقبول، وإن كان فيها ما يخالف عاداتهم، ثم أمرهم بذكر نعمته، تنبيهاً على أن من أنعم عليك فيجب أن يأخذ ما يلقي الله من الآيات بالقبول، ليكون ذلك شكراً لنعمته السابقة، ثم نبه تعالى على أن ما أنزل من الكتاب والحكمة فهو واعظ لكم، فينبغي قبوله والانتهاء عنده، ثم أمر بتقوى الله تعالى، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء عليم، فهو لا يخفى عنه شيء من أفعالكم، وهو يجازيكم عليها.
ثم ذكر تعالى أن الأزواج إذا طلقوا نساءهم وانقضت عدّتهنّ لا تعضلوهنّ عن تزوج من أردن إذا وقع تراض بين المطلقة وخاطبها، وكان من عادة العرب أن من طلق منهم امرأة وبتها يعضلها عن التزوج بغيره، ثم أشار بقوله: ذلك إلى العضل، وذكر أنه يوعظ به المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر، لأن من لم يكن مؤمناً لم يزدجر عن ما نهى الله عنه، ونبه على الإيمان باليوم الآخر، لأن ثمرة مخالفة النهي إنما تظهر في الدار الآخرة، ثم أشار بقوله: {ذلكم أزكى لكم} إلى التمكين من التزويج وعدم العضل لما في ذلك من الثواب بامتثال أمر الله تعالى، وأطهر لما يخشى من اجتماع الخاطب والمرأة على ريبة إذا منعا من التزويج، ثم نسب العلم إليه تعالى ونفاه عن المخاطبين، إذ هو العالم بخفايا الأمور وبواطنها.
ثم شرع تعالى في ذكر أشياء من نتائج التزويج من إرضاع الوالدات أولادهنّ، وذكر حد ذلك لمن أراد الإتمام، وما يجب للمرأة على الزوج وعلى وارثه إذا مات الزوج من النفقة والكسوة، وأن ذلك بالمعروف من غير إجحاف لا بالزوج ولا بالزوجة، وذكر جواز فصله وفطامه إذا كان ذلك برضا أبيه وأمه قبل الحولين، وجواز الاسترضاع للأولاد إذا اتفق الرجل والزوجة على ذلك، وأشار إلى تسليم أجر الأظآر تطييباً لأنفسهنّ وإعانة لهنّ على محبة الصغير، واشتمالهنّ عليه حتى ينشأ كأنه قد أرضعته أمّه، فإن الإحسان جالب للمحبة، ثم ختم هذه الآية بالأمر بتقوى الله تعالى، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء بصير، كما ختم تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى بالعلم بأن الله بكل شيء عليم، وذلك إشارة إلى المجازاة، وتهديد ووعيد لمن خالف أمره تعالى.